عظيم الأجر في صلاة الفجر
مع
بزوغ شعاع الفجر، يَعْلو صوت الحق، فيشقُّ الآفاق، ويخترق الآذان، ويبلغ
القلوب، التي تتفاعل مع النِّداء، وتُهْرَع إلى ربِّ الأرض والسماء،
فتُلبِّي النِّداء، وتفرح باللِّقاء، لقاء الإيمان، لقاء القرآن؛ ﴿ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا
﴾ [الإسراء: 78]، هناك في بيت الله تدعوه وتناجيه، وتبثُّ إليه حاجتها
وشَكْواها ورجاها، في بيت الله، خير البقاع، وأفضل المراتع، وأسمى الأماكن،
جَمْع طيِّب (جمهور الفجر)، ووقت طيِّب (صلاة الفجر)، ومكان طيب (بيت الله)،
الملائكة للقرآن شُهود، والقلب بالخير موعود، والشَّيطان بوسواسه مَرْدود،
سَيْل من الدعوات، وسحائب من الرَّحمات، ذنوب تُغْفَر وتُمحى سيئات، عيوب
تُسْتَر وتُكتب حسنات، جوٌّ من الخشوع، ومَشْهد من الخضوع يُزَلزل أجزاء
الزَّمان، ويَمْلأ جنبات المكان، ويخترق فتحات الآذان؛ ليهزَّ أوتار
القلوب، ويُسْقِط ما علق بها من ذُنوب، ويُصْلح ما لحق بها من عيوب، إنَّه
نور الفجر، وقرآن الفجر، آهات وأنَّات، دمعات وحسرات على ما ارتكب في جنب
الله من سيِّئات، وما اقترف في طريق الله من آفات.
البستان الفوَّاح وطريق الفلاح: أنوار
ساطعة، ولَحظات رائعة، وكلمات ماتعة، ولوحة بديعة، ودَوْحة غنَّاء، وحديقة
ذات بهجة، وأرواح تتسارع، وصدور تتطهَّر، ونفوس تتوب، وقلوب تنيب، وأفئدة
تغتسل، إنَّها صلاة الفجر، إنَّها لحظات المناجاة، إنَّها أوقات العيش مع
الله، فإذا استوت الصُّفوف، تصافحَتِ القلوب، وتعانقت الأرواح، وتوحَّدَت
الغايات، ويبدأ كلام الله يَلْمَس الأرواح الظَّمْأى، ويشفي القلوب الجرحى،
ويروي النُّفوس العطشى، بآياتٍ مِن نَبْع الإحسان، وكلماتٍ من نور القرآن،
وحروفٍ من فيض الإيمان، إنَّه بستان الفجر، وصدق الله - تعالى - إذ يقول: ﴿
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78]، ﴿ أَقِم الصلاة لِدُلوك الشمس ﴾؛ أيْ: مِن وقت زوالِها "إلى غسق الليل" إقبالِ الظُّلمة؛ أيِ: الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء، "وقرآن الفجر"؛ أيْ: صلاة الصُّبح، ﴿ إنَّ قرآن الفجر كان مشهودًا ﴾ تَشْهَدُه ملائكة الليل وملائكة النَّهار.
قسَمٌ عظيم: لذلك يُقْسِم الله بهذه الصلاة: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ
﴾ [الفجر: 1 - 5]، والعظيم لا يُقْسِم إلاَّ بعظيم؛ ليلفت انتباهَ العظماء
إليه، والعظماء هنا هم أهل صلاة الفجر، عند ربِّهم عُظَماء، وفي بيوتهم
عظماء، وفي أعمالهم عظماء، وفي الآخرة عظماء.
في بيوتهم عظماء؛ لأنَّهم يستيقظون نُشَطاء، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يَعْقد الشيطان على قافية رأس أحدِكم إذا هو نام ثلاثَ عُقَد، يضرب مكان كلِّ عقدة: "عليك ليلٌ طويل فارْقُد"،
فإن استيقظ فذكَر الله، انْحَلَّت عقدة، فإنْ توضَّأ انْحَلَّت عقدة، فإن
صلَّى انحلَّت عقدة، فأصبح نشيطًا طيِّب النَّفْس، وإلاَّ أصبح خبيث
النَّفْس كسلان))؛ قال الشَّيخُ الألبانِيُّ: صحيح.
وفي الآخرة عظماء بأجر صلاة الفجر، كيف؟ ((ركعتا الفَجْر خيرٌ من الدُّنيا وما فيها))؛ تحقيق الألباني: "صحيح"؛ (انظر: حديث رقم: 3517 في "صحيح الجامع")؛
لذلك عندما يستيقظ المرء ويتعبَّد لله بقيام الليل ببعض الرُّكَيعات، ثم
يبدأ يومه بصلاة الفجر، فإنَّه يحوز أجرًا عظيمًا، وفلاحًا أعظم.
ألا تريد أن تكون في ذمَّة الله؟! عن أبي هريرة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((من صلَّى الصبح، فهو في ذمَّة الله، فلا يتبعنَّكم الله بشيء من ذمته))؛ قال الشيخ الألباني: صحيح.
حجَّة وعُمْرة منخفضة التكاليف لمن يريد: يقول الصادق المصدوق - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من صلَّى الغداة في جماعة، ثم قعد يَذْكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلَّى ركعتين، كانت له كأَجْرِ حجَّةً وعمرة تامَّة تامة تامَّة))؛ "صحيح السلسلة الصحيحة".
خير الْخَلْق وصلاة الفجر: وكان النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتعهَّد صلاة الفجر؛ عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لَم يكن النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على شيءٍ من النوافل أشدَّ تعاهُدًا منه على ركعتَيِ الفجر"؛ رواه البخاريُّ ومسلمٌ وأبو داود والنَّسائي وابن خزيمة في "صحيحه".
وفي
رواية: "ما رأيتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى شيءٍ من
الخير أسرعَ منه إلى الرَّكعتَيْن قبل الفجر، ولا إلى غنيمة".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو
يعلم الناس ما في النِّداء والصَّفِّ الأوَّل، ثم لم يجدوا إلا أن
يَسْتهموا عليه، لاستهموا، ولو يعلمون ما في التَّهجير، لاستبقوا إليه، ولو
يعلمون ما في العَتَمَة والصُّبح، لأتَوْهُما ولو حبْوًا))؛ رواه البخاري ومسلم.
صلاح الدِّين وصلاة الفجر: ذُكِر
أنَّ صلاح الدين الأيوبِيَّ وعى هذا الدَّرس، فقد ذهب إلى صلاة الفجر في
المسجد الأموي بعد أن أقيمت الصَّلاة، ولم يكتمل الصف الأول، وبعد سبع
سنوات ذهب إلى المسجد نفسه بعد أن أقيمت الصَّلاة، فلم يجد له مكانًا،
وصلَّى في الساحة الخارجية، عندها توكَّل على الله، وشنَّ الحرب على
الصليبيِّين، وكان ما تعلمون.
خَلْق آخر يحبُّ الفجر: في وقت الفجر الدِّيك يؤذِّن، ويرى الملائكة؛ ((إذا سمعتم صياح الدِّيَكة، فسَلُوا الله من فضله؛ فإنَّها رأت ملَكًا))؛
متفق عليه، والفرس يدعو؛ ((إنه ليس مِن فرَسٍ عربي إلاَّ يؤذن له مع كلِّ
فَجْر يَدْعو بدعوتَيْن، يقول: اللهم إنَّك خوَّلْتَنِي مَن خولتني مِن بني
آدم، فاجعلني مِن أحبِّ أهله وماله إليه))؛ (تخريج السيوطي: "حم ن ك" عن
أبي ذرٍّ، صحيح)؛ انظر حديث رقم: 2414 في "صحيح الجامع".
المنافقون وصلاة الفجر: ((أثقل
الصلاة على المنافقين صلاةُ العشاء وصلاةُ الفجر، ولو يعلمون ما فيهما
لأتوْهُما ولو حبوًا، ولقد هَمَمْتُ أن آمُرَ بالصلاة فتُقام، ثم أمر رجلاً
يصلِّي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حُزَم من حطب إلى قوم لا يشهدون
الصلاة، فأحرق عليهم بيوتَهم بالنار))؛ متفق عليه.
اللهم
ارزقنا الحفاظ على صلاة الفجر، ومتِّعْنا بأجرها وخَيْرها، اللهم ارزقنا
الإخلاص في القَوْل والعمل، ولا تجعل الدُّنيا أكبر هَمِّنا، ولا مبلغ
علمنا، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى أهله وصحبه وسلِّم، والحمد لله
ربِّ العالمين.
دمتم برعاية الرحمن وحفظه
شبكة الالوكة