المقالة الخامسة حول الشعور : هل الشعور كافٍ لمعرفة كل حياتنا النفسية ؟ الجدلية .
I
– طرح المشكلة : ان التعقيد الذي تتميز به الحياة النفسية ، جعلها تحظى
باهتمام علماء النفس القدامى والمعاصرون ، فحاولوا دراستها وتفسير الكثير
من مظاهرها . فاعتقد البعض منهم ان الشعور هو الاداة الوحيدة التي تمكننا
من معرفة الحياة النفسية ، فهل يمكن التسليم بهذا الرأي ؟ او بمعنى آخر :
هل معرفتنا لحياتنا النفسية متوقفة على الشعور بها ؟
II – محاولة حل المشكلة :
1-أ-
عرض الاطروحة : يذهب انصارعلم النفس التقليدي من فلاسفة وعلماء ، الى
الاعتقاد بأن الشعور هو أساس كل معرفة نفسية ، فيكفي ان يحلل المرء شعوره
ليتعرف بشكلٍ واضح على كل ما يحدث في ذاته من احوال نفسية او ما يقوم به من
افعال ، فالشعور والنفس مترادفان ، ومن ثـمّ فكل نشاط نفسي شعوري ، وما لا
نشعر به فهو ليس من انفسنا ، ولعل من ابرز المدافعين عن هذا الموقف
الفيلسوفان الفرنسيان " ديكارت " الذي يرى أنه : « لا توجد حياة أخرى خارج
النفس الا الحياة الفيزيولوجية » ، وكذلك " مين دو بيران " الذي يؤكد على
أنه : « لا توجد واقعة يمكن القول عنها انها معلومة دون الشعور بها » .
وهـذا كله يعني ان الشعور هو اساس الحياة النفسية ، وهو الاداة الوحيدة
لمعرفتها ، ولا وجود لما يسمى بـ " اللاشعور " .
1-ب- الحجة : ويعتمد
انصار هذا الموقف على حجة مستمدة من " كوجيتو ديكارت " القائل : « أنا أفكر
، إذن أنا موجود » ، وهذا يعني ان الفكر دليل الوجود ، وان النفس البشرية
لا تنقطع عن التفكير الا اذا انعم وجودها ، وان كل ما يحدث في الذات قابل
للمعرفة ، والشعور قابل للمعرفة فهو موجود ، اما اللاشعور فهو غير قابل
للمعرفة ومن ثـمّ فهو غير موجود .
اذن لا وجود لحياة نفسية لا نشعر بها ،
فلا نستطيع ان نقول عن الانسان السّوي انه يشعر ببعض الاحوال ولا يشعر
بأخرى مادامت الديمومة والاستمرار من خصائص الشعور .
ثـم إن القول بوجود
نشاط نفسي لا نشعر به معناه وجود اللاشعور ، وهذا يتناقض مع حقيقة النفس
القائمة على الشعور بها ، فلا يمكن الجمع بين النقيضين الشعور واللاشعـور
في نفسٍ واحدة ، بحيث لا يمكن تصور عقل لا يعقل ونفس لا تشعر .
وأخيرا ،
لو كان اللاشعور موجودا لكان قابلا للملاحظة ، لكننا لا نستطيع ملاحظته
داخليا عن طريق الشعور ، لأننا لا نشعر به ، ولا ملاحظته خارجيا لأنه نفسي ،
وماهو نفسي باطني وذاتي . وهذا يعني ان اللاشعور غير موجود ، وماهو موجود
نقيضه وهو الشعور .
1-جـ- النقد : ولكن الملاحظة ليست دليلا على وجود
الاشياء ، حيث يمكن ان نستدل على وجود الشئ من خلال آثاره ، فلا أحد يستطيع
ملاحظة الجاذبية او التيار الكهربائي ، ورغم ذلك فاثارهما تجعلنا لا ننكر
وجودهما .
ثم ان التسليم بأن الشعورهو اساس الحياة النفسية وهو الاداة
الوحيدة لمعرفتها ، معناه جعل جزء من السلوك الانساني مبهما ومجهول الاسباب
، وفي ذلك تعطيل لمبدأ السببية ، الذي هو اساس العلوم .
2-أ- عرض نقيض
الاطروحة : بخلاف ما سبق ، يذهب الكثير من انصار علم النفس المعاصر ، ان
الشعور وحده ليس كافٍ لمعرفة كل خبايا النفس ومكنوناتها ، كون الحياة
النفسية ليست شعورية فقط ، لذلك فالانسان لا يستطيع – في جميع الاحوال – ان
يعي ويدرك اسباب سلوكه . ولقد دافع عن ذلك طبيب الاعصاب النمساوي ومؤسس
مدرسة التحليل النفسي " سيغموند فرويد " الذي يرى أن : « اللاشعور فرضية
لازمة ومشروعة .. مع وجود الادلة التي تثبت وجود اللاشعور » . فالشعور ليس
هـو النفس كلها ، بل هناك جزء هام لا نتفطن – عادة – الى وجوده رغم تأثيره
المباشر على سلوكاتنا وأفكارنا وانفعالاتنا ..
2-ب- الحجة : وما يؤكد
ذلك ، أن معطيات الشعور ناقصة ولا يمكنه أن يعطي لنا معرفة كافية لكل ما
يجري في حياتنا النفسية ، بحيث لا نستطيع من خلاله ان نعرف الكثير من أسباب
المظاهرالسلوكية كالاحلام والنسيان وهفوات اللسان وزلات الاقلام .. فتلك
المظاهر اللاشعورية لا يمكن معرفتها بمنهج الاستبطان ( التأمل الباطني )
القائم على الشعور ، بل نستدل على وجودها من خلال اثارها على السلوك . كما
أثبت الطب النفسي أن الكثير من الامراض والعقد والاضطرابات النفسية يمكن
علاجها بالرجوع الى الخبرات والاحداث ( كالصدمات والرغبات والغرائز .. )
المكبوتة في اللاشعور.
2جـ - النقد : لا شك ان مدرسة التحليل النفسي قد
أبانت فعالية اللاشعور في الحياة النفسية ، لكن اللاشعور يبقى مجرد فرضية
قد تصلح لتفسير بعض السلوكات ، غير أن المدرسة النفسية جعلتها حقيقة مؤكدة ،
مما جعلها تحول مركز الثقل في الحياة النفسية من الشعور الى اللاشعور ،
الامر الذي يجعل الانسان اشبه بالحيوان مسيّر بجملة من الغرائز والميول
المكبوتة في اللاشعور.
3- التركيب : وهكذا يتجلى بوضوح ، أن الحياة
النفسية كيان معقد يتداخل فيه ماهو شعوري بما هو لاشعوري ، أي انها بنية
مركبة من الشعور واللاشعور ، فالشعور يمكننا من فهم الجانب الواعي من
الحياة النفسية ، واللاشعور يمكننا من فهم الجانب اللاواعي منها .
III–
حل المشكلة :وهكذا يتضح ، أن الانسان يعيش حياة نفسية ذات جانبين : جانب
شعوري يُمكِننا ادراكه والاطلاع عليه من خلال الشعور ، وجانب لاشعوري لا
يمكن الكشف عنه الا من خلال التحليل النفسي ، مما يجعلنا نقول أن الشعور
وحده غير كافٍ لمعرفة كل ما يجري في حيتنا النفسية .