كلما قلبت النظر في سيرة وشمائل الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ تجد الكمال في أخلاقه، والسمو في تعاملاته، فكمالات خُلُقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ آية كبرى، وعلم من أعلام نبوته، وقد مدحه الله ـ عز وجل ـ بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}... (القلم : 4).
ومن الكمال الخُلُقي الذي تحلى به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - خُلُقُ الرحمة والرأفة بالغير، فقد وهبه الله قلباً رحيماً، يرق للضعيف، ويحن على المسكين، ويعطف على الناس أجمعين، حتى صارت الرحمة له طبعا، فشملت الصغار والكبار، والمؤمنين والكفار، والخدم والعبيد.
وقد تجلّت مظاهر رحمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالخدم والعبيد أن جعل لهم حقوقا، وأمر بالرفق بهم، بل وحث على تحرير العبيد من رقهم .
وإذا تتبعنا التوجيهات والتوصيات التي أوصى بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهم، فسنعرف مقدار الاهتمام الذي حازته هذه الفئة من المجتمع، في وصايا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقد ساهمت هذه الوصايا بشكل كبير في تحرير العبيد، ومن ثم وقفت قيادات قريش في وجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودينه الذي يدعو إلى تحرير العبيد، وينادي بالمساواة بينهم وبين السادة ..
لقد اهتم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعبيد في حياته وأوصى بهم خيرا حين موته، فعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: (كان آخر كلام رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم).... (أحمد).
وحذر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ضرب العبد أو إيذائه، فعن أبي مسعود الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ قال: (كنت أضرب غلاماً لي، فسمعتُ مِنْ خَلْفِي صوتا: اعلم أبا مسعود : لله أَقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقلت: يا رسول الله، هو حر لوجه الله . فقَال: أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار أَو لمستك النار)... (مسلم).
بل حض الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المعاملة الحسنة لهم، حتى في الألفاظ والتعبيرات، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي)... (مسلم).
وجعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كفارة ضرب العبد عتقه، فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (.. من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه)... (مسلم).
كما نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تكليف العبيد والخدم بأعمال شاقة تفوق طاقتهم، أو الدعاء عليهم، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)... (البخاري).
وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قَال: قَال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله تبارك وتعالى ساعةَ نيل فيها عطاء فَيستجيب لكم)... (أبو داود).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يوصي أصحابه بالعفو عن إساءة الخدم وخطئهم .. فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: (جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة)... (أبو داود).
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحسان إلى العبيد والخدم، وعدم الاستهزاء بهم، بل وإطعامهم وإلباسهم من نفس طعام ولباس أهل البيت، فعن المعرور بن سويد قال: (لقيت أبا ذر بالربذة (موضع قرب المدينة)، وعليه حُلَّة (ثوب) وعلى غلامه حُلة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببت رجلاً، فعيرته بأمه، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلُكُم (خدمكم وعبيدكم)، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)... (البخاري).
ويحدثنا أنس ـ رضي الله عنه ـ خادم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن رحمته ووصيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ العملية بالخدم فيقول: (كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أحسن الناس خُلُقا، فأرسلني يوما لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فخرجت حتى أمر على صبيان، وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس ، أذهبت حيث أمرتك؟ قال: قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله ..)... (مسلم).
ويقول: (خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، والله ما سبني سبة قط، ولا قال لي أف قط، ولا قال لي لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته)... (أحمد) .
ولا شك أن شهادة الخادم لسيده صادقة، وخاصة من رجل كأنس ـ رضي الله عنه ـ، الذي نقل عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الأُمة آلاف الأحاديث، وكان معه كظله ..
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (ما ضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خادما ولا امرأة قَط)... (أبو داود) ..
لقد ترك هذا التعامل أعظم الأثر في نفوس العبيد والخدم الذين اتصلوا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد استطاع ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يأسر قلوبهم ويملك مشاعرهم بسماحة أخلاقه وكريم شمائله، وقصة زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه خادم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شاهد على ذلك، فقد عاش زيد في بيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وظل يقوم على خدمته ويرعى شؤونه، حتى بلغت الأخبار إلى والده بوجوده عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فانطلق مسرعاً إليه، وطلب من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يرد له ولده، فنظر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لزيد وقال: (إن شئت فأقم عندي، وإن شئت فانطلق مع أبيك، فقال: بل أقيم عندك)... (الطبراني)، فاختار زيدٌ البقاء عبداً مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الرجوع حراً مع أبيه، لما رآه من طيب عشرة وحسن خلق الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
لقد فتح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهديه وشرعه الذي جاء به أبواباً متعددة لإخراج العبيد من رقهم إلى سعة الحرية، فكان العتق هو الكفارة الأولى في قتل الخطأ، وفي جماع الرجل زوجته في نهار رمضان، وفي الظهار، وإذا أساء السيد إلى عبده بلطمه فليس لها كفارة إلا عتقه، كما جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عتق العبيد وسيلة من وسائل للتكفير عن الذنوب والخطايا، وفي ذلك يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أيما امرئ مسلم، أعتق امرأ مسلماً، كان فكاكه من النار)... (الترمذي) .
إن مظاهر رحمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حفلت بها سيرته وحياته، وامتلأت بها شريعته، فرحم الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمرأة والضعيف، واليتيم والفقير، والعبيد والخدم، بل شملت رحمته الحيوان والجماد، وجاء بشريعة كلها خير ورحمة للعباد، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}... (الأنبياء : 107).