alili slimane المـديـر العـــام
عدد المساهمات : 5004 تاريخ الميلاد : 12/10/1991 تاريخ التسجيل : 17/07/2009 العمر : 33 الموقع : www.magra.yoo7.com العمل/الترفيه : طالب المزاج : عادي
| موضوع: المنهج السليم في دراسة الحديث المعل الخميس يونيو 21, 2012 5:36 pm | |
| [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة][ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
|
|
<table border="0" cellpadding="5" cellspacing="0" width="98%">
<tr> <td height="10">المنهج السليم في دراسة الحديث المعل </td></tr><tr> <td height="10"> </td></tr><tr> <td height="10">د. علي بن عبد الله الصيّاح </td></tr></table>
| [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]تمهيد : إنّ مما يسر الباحث في علمِ الحديثِ الشريف ما يَرى من انتشارِ المنهجيةِ السليمة في دراسةِ الحديثِ وعلومِهِ، والعنايةِ بعلوم سلفنا الزاخرة؛ جمعاً ودراسةً وتحليلاً واستنطاقاً .
ومن ذلك العناية بأدق أدق وأجل علوم الحديث: «علم العلل» قَالَ الحافظُ ابنُ حجر ـ رحمة الله عليه ـ: «المُعَلَّل: وهو من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها، ولا يقوم به إلاّ من رزقه الله فَهْماً ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفةً تامةً بمراتب الرواة، وملكةً قويةً بالأسانيد والمتون، ولهذا لم يتكلم فيه إلاّ القليل من أهل هذا الشأن؛ كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن شيبة، وأبي حاتم، وأبي زرعة..»(1) .
قال أبو عبد الله الحميديُّ ـ رحمة الله عليه ـ: «ثلاثُ كتبٍ من علوم الحديث يجبُ الاهتمامُ بها: كتابُ العلل، وأحسنُ ما وضع فيه كتاب الدّارقُطنيّ، والثاني: كتابُ المؤتلف والمختلف، وأحسنُ ما وضع فيه الإكمال للأمير ابنِ ماكولا، وكتابُ وفيات المشايخ، وليس فيه كتابٌ(2)»(3). وقال ابنُ رجب ـ رحمة الله عليه ـ: «ولما انتهى الكلام على ما ذكره الحافظ أبو عيسى الترمذي ـ رحمة الله عليه ـ في كتاب الجامع... أحببتُ أن أتبع كتاب العلل بفوائد أُخر مهمة.. وأردت بذلك تقريب علم العلل على من ينظر فيه، فإنه علمٌ قد هُجر في هذا الزمان، وقد ذكرنا في كتاب العلم أنَّه علمٌ جليلٌ قلَّ من يعرفه من أهل هذا الشأن، وأنَّ بساطه قد طُوي منذ أزمان»(4).
وبفضل الله انتشر بين طلبة الحديث العناية بهذا الفن الدقيق، وحرص الباحثون في الدراسات العليا على تسجيلِ الموضوعات في هذا الفن، من ذلك مثلاً: «مرويات الزهري المعلة في كتاب العلل للدارقطني»، و «مرويات الإمامين قتادة بن دعامـة ويحـيى بـن أبـي كثير المعلة في كتاب العلل للدارقطني»، و «مرويات أبي إسحاق السبيعي المعلة في كتاب العلل للدارقطني»، و «علل ابن أبي حاتم تحقيق وتخريج ودراسة»(5)، و «الأحاديثُ التي أعلها الإمامُ يحيى بنُ معين من خلال سؤالات الدوري وابن محرز والدارمي وابن الجنيد والدّقاق» و«الأحاديثُ التي أعلها البخاريُّ في التاريخ الكبير»، و «الأحاديثُ التي أعلها البخاريُّ في التاريخ الأوسط»، و«الأحاديث التي أعلها علي بن المديني»، و«الأحاديث التي أعلها الإمامُ أحمد بن حنبل في مسنده»، و «الأحاديثُ التي أعلها العُقيليّ في كتابهِ الضعفاء»، و «الأحاديثُ المرفوعةُ المعلة في كتاب الحِلْية لأبي نُعيم»، و «الأحاديثُ التي أعلها أبو داود في سننه» وغيرها.
وما أحسنَ ما قال الدكتور أحمد محمد نور سيف ـ وفقه الله ـ: «بدأنا نَقْربُ من وضع منهج متقاربٍ يُصور لنا مناهج النُّقاد في تلك الحقبة من الزمن، هذه الحقبة هي العصور الذهبية لنُقَّاد الحديث، مدرسة علي بن المديني، ويحيى بن معين، و أحمد بن حنبل والمدرسة التي قبلهم، والمدرسة التي بعدهم. هذه المدارس في الواقع قد تكون مدارس، وقد تكون مدرسـة، قد تتقــارب المناهــج وقد تفتــرق وقـد تختلف، ولكـن لا يمكن أنْ نتصور أو أن نستطيع أنْ نُلِمَّ بتلك المناهج في إطارٍ عامٍّ محددٍ إلاَّ بمثلِ هذه الدراسة.. »(6).
وقبل الدخول في موضوع البحث أنبه على أمورٍ ينبغي للباحث أن يتنبه لها لكي يصلَ للغاية والفائدة المرجوة من الدراسة، وهي :
1 ــ أن لا يحاكم الباحثُ الأئمةَ والنقادَ المتقدمين على ضوء معلوماته ومعارفه التي استمدها من بعض الكتب المتأخرة التي قد تخالف بعض مصطلحات الأئمة المتقدمين وعباراتهم، فيعمد إلى تغليط الأئمة في مصطلحاتهم فيفوّت على نفسِهِ علماً كثيراً؛ من ذلك مثلاً لفظة (مرسل) معناها عند المتأخرين: ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكنَّ الأئمة المتقدمين يوسعون معناها بحيثُ تشمل الانقطاع؛ من ذلك مثلاً قول ابن أبي حاتم ـ رحمة الله عليه ـ في كتاب العلل: «سَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيث رَوَاهُ الفِرْيابِيُّ، عَنْ عُمَر بنِ رَاشِد، عَنْ يَحْيَى بنِ إسْحَاقَ بنِ عَبْد اللّه ابن أَبِي طَلْحة، عَنْ الْبَرَاء، عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْرِّبَا اثنان وسَبْعُون بَاباً، أدناها مِثْلُ إتيانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ»، قَالَ أَبِي: هــو مــرسـل، لم يدرك يَحْيَى بنُ إِسْـحَاق الْـبَرَاء، ولا أدرك والدُهُ الْبَرَاء»(7)، ومن ذلك أيضاً لفظ التدليس عند المتقدمين يطلق على الإرسال بخلاف تعريف المتأخرين له، ومن ذلك لفظة (حسن)، ولفظة (منكر)، ولفظة (مجهول) وغيرها من المصطلحات.
2 ــ اتباعُ الأئمةِ المتقدمين في تعليلهم للأخبار، وعدم التسرع في الرد عليهم، وهذا من باب الاتباع المحمود لا التقليد المذموم، قال ابنُ رجب: «قاعدةٌ مهمةٌ: حذّاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال، وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به أنَّ هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك، وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره، وإنما يرجع فيه إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عَنْ سائر أهل العلم»(، وما قاله ابنُ رجب يتعذر في مثل هذه الأزمنة مما يجعل الأمر كما قال ابنُ حجر: «قد تقصرُ عبارة المعلل منهم فلا يفصحُ بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى كما في نقد الصيرفي سواء؛ فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله فالأوْلى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه، وهذا الشافعيّ مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقــول: «وفيه حــديث لا يثبته أهل العلم بالحديث»، وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلل، وحيثُ يصرح بإثبات العلة، فأمَّا إن وجد غيره صححه فينبغي حينئذ توجه النظر إلى الترجيح بين كلاميهما، وكذلك إذا أشار إلى المعلل إشارةً ولم يتبين منه ترجيح لإحدى الروايتين، فإنْ ذلك يحتاج إلى الترجيح، والله أعلم»(9)، وقال أيضاً: «وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين وشدة فحصهم وقوة بحثهم وصحة نظرهم وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه، وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى فيه على ظاهر الإسناد»(10).
وتأمل هذه القصة التي ذكرها ابنُ أبي حاتم قال: «سمعتُ أبي ـ رحمه الله ـ يقولُ: جاءني رجلٌ من جِلَّةِ أصحابِ الرأي مِنْ أهلِ الفهم منهم، وَمَعَه دفترٌ فعرضه عليَّ، فقلتُ في بعضها: هذا حديثٌ خطأ قد دَخَل لصاحبه حديثٌ في حديث، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ باطل، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ منكر، وقلتُ في بعضهِ: هذا حديثٌ كذب، وسائرُ ذلك أحاديثُ صحاح، فقال: من أين علمتَ أنّ هذا خطأ، وأنَّ هذا باطل، وأنّ هذا كذب، أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطتُ وأني كذبتُ في حديث كذا؟ فقلتُ: لا؛ ما أدري هذا الجزء من رواية مَنْ هو، غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأنّ هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب، فقال: تدعي الغيب؟ قال: قلت: ما هذا ادعاء الغيب، قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلتُ: سلْ عما قلتُ من يحسن مثل ما أُحسن؛ فإن اتفقنا علمتَ أنَّا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم، قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة، قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلتَ؟ قلت: نعم: قال: هذا عجب.
فأخذ فكتب في كاغَدٍ(*) ألفاظي في تلك الأحاديث، ثم رجع إليّ وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث؛ فما قلت إنه باطل قال أبو زرعة: هو كذب، قلتُ: الكذب والباطل واحد، وما قلت إنه كذب قال أبو زرعة: هو باطل، وما قلت إنه منكر قال: هو منكر كما قلتُ، وما قلت إنه صحاح قال أبو زرعة: هو صحاح، فقال: ما أعجب هذا! تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما؟ فقلت: فقد علمت أنَّا لم نجازف، وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا، والدليل على صحة ما نقوله أن ديناراً نَبَهْرَجاً(11) يحمل إلى الناقد فيقول: هذا دينار نبهرج، ويقول لدينار: هو جيد، فإن قيل له: من أين قلت إن هذا نبهرج؛ هل كنت حاضراً حين بهرج هذا الدينار؟ قال: لا. فإن قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار؟ قال: لا، قيل: فمن أين قلتَ إن هذا نبهرج؟ قال: علماً رزقت، وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك، قلتُ له: فتحمل فصّ ياقوت إلى واحدٍ من البصراء من الجوهريين فيقول: هذا زجاج، ويقول لمثله: هذا ياقوت، فإن قيل له: من أين علمت أن هذا زجاج، وأن هذا ياقوت هل حضرت الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج؟ قال: لا، قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه بأنه صاغ هذا زجاجاً، قال: لا، قال: فمن أين علمت؟ قال: هذا علم رزقت، وكذلك نحن رزقنا علماً لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأنّ هذا الحديث كذب، وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه»(12).
وتأمل أيضاً هذه القصة التي ذكرها أبو يعلى الخليليُّ. قال: أخبـرنا علـي بنُ عُـمَر الفقيه قال: حـدّثنا أبـو محـمـد عبد الرحمن بنُ أبي حاتم قال: سمعتُ أبي يقول: دخلتُ قَزوين سنةَ ثلاث عشرة ومائتين مع خالي محمد بن يزيد، وداود العقيلي قاضيها، فدخلنا عليه فدفع إلينا مَشْرَساً(13) فيه مسند أبي بكر؛ فأولُ حديثٍ رأيتُه فيه: حدثنا شعبةُ عَنْ أبي التَيّاح عَنْ المغيرة بن سُبَيْع عَنْ أبي بكر الصديق قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يخرج الدجالُ من أرضٍ يقال لها: خراسان يتبعه أقوامٌ كأنّ وجهوهم المجانُّ المُطرَقَةُ"(14)، فقلتُ: ليس هذا من حديث شعبة عَنْ أبي التَيّاح، وإنمـا هـو مـن حديثِ ســعيد بن أبي عَرُوبة وعبد الله بن شَوْذَب عَنْ أبي التَيّاح، فقلتُ لخالي: لا أكتبُ عنه إلاّ أن يرجع عَنْ هذا، فقال خالي: أستحي أن أقول، فخرجتُ ولم أسمعْ منه شيئاً»(15).
وذكرها ابنُ أبي حاتم في الجرح والتعديل(16) باختصار فقال: «سمعتُ أبي يقول: داود بن إبراهيم هذا متروك الحديث كان يكذب، قدمتُ قزوين مع خالي فحمل إليَّ خالي مسنده فنظرتُ في أول مسند أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فإذا حديث كذب عَنْ شعبة، فتركته وجهد بي خالي أن أكتب منه شيئاً، فلم تطاوعني نفسي، ورددتُ الكتب عليه».
هذه القصة التي وقعت لأبي حاتم وعمره ثمانية عشر تبيّن مدى ما وَصَل إليه القوم من سعة حفظ، وسرعة استحضار، ودقة نقد، وقوة في الحق؛ فالحديثُ ورجالهُ وطرقهُ تجري مع أنفاسهم كما يجري الهواء، وعندما يسمعــون الخطأ والوهـم لا يقاومون الدافع الشرعي المتأصل في نفوسهم في رد وتصحيح هــذا الوهــم والخطأ مهمــا كانت مــنزلة الواهــم والمخطئ، فلا محاباة فـي الذّب والدّفـاع عَـنْ سنة المصطفــى صلى الله عليه وسلم لا لـقريبٍ ولا لشريفٍ، وهذا في الحقيقة من حفظ الله لهذا الدين.
وقصصُ أئمةِ الحديثِ وأخبارهُم في هذا البابِ كثيرةٌ جداً؛ فعلى طالب العلم أنْ يعرفَ للقومِ منزلتهم، وقدم صدقهم فيتأنّى كثيراً عندما يهمُّ بمخالفتهم أو تعقبهم خاصةً في جوانب الحديث الدقيقة كالعلل.
3 ــ جمعُ طرقِ الحديث، والنظر فيها مجتمعةً، ومعرفة مراتب رواتها، قالَ الخطيبُ البغداديّ ـ رحمة الله عليه ـ: «والسبيلُ إلى معرفةِ علة الحديث أنْ يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط، كما أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم الأشناني بنيسابور قال: سمعتُ أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي يقول: سمعتُ عثمان بن سعيد الدارمي يقول: سمعتُ نعيم بن حماد يقول: سمعت ابن المبارك يقول: إذا أردتَ أن يصحَّ لكَ الحديث فاضرب بعضه ببعض»(17).
وقال علي بنُ المديني ـ رحمة الله عليه ـ: «البابُ إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه»(18)، وقال يحيى بنُ معين ـ رحمة الله عليه ـ: «اكتب الحديث خمسين مرة، فإنّ له آفات كثيرة»(19)، وقال ابن رجب: «معرفة مراتب الثقات، وترجيح بعضهم على بعض عند الاختلاف، إمّا في الإسناد، وإمّا في الوصل والإرسال، وإما في الوقف والرفع ونحو ذلك، وهذا هو الذي يحصل من معرفته وإتقانه وكثرة ممارسته الوقوف على دقائق علل الحديث»(20). وقال ابنُ حجر: «ويحصل معرفة ذلك بكثرة التتبع وجمع الطرق»(21)، وقال ابن الصلاح ـ رحمة الله عليه ـ: «ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك»(22).
4 ــ اتباعُ منهجٍ منضبطٍ عند دراسةِ الحديثِ المُعل يوافق طريقة الأئمة المتقدمين، وهذا هو المقصود من هذا البحث، وقد رأيتُ دراسةً لحديثٍ مُعل كَتَبه أحدُ الباحثين وَقَع فيه بأوهام عجيبة وغَلّط الأئمة، وجــره الإســنادُ ـ من حيثُ لا يشعر ـ إلى أسانيد أخرى لا علاقة لها بالعلة ولا بالطريق فأعلها؛ لأنه لم يتبع المنهج السليم في دراسته؛ فكانت النتيجة المتوقعة. وعدمُ اتباعِ المنهج السليم في دراسة الحديث المُعل على طريقة الأئمة المتقدمين يُنْتج لنا مَنْ يقول لإمامِ العللِ في زمانهِ علي بنِ المديني(23) : «ما هكذا تُعَل الأحاديث يا بنَ المديني» !!، ـ كما قد وَقَع مِنْ بعضِ المعاصرين هداهم اللهُ وفتح عليهم، والله المستعان وعليه التكلان.
* تعريف العلة والحديث المُعل في الاصطلاح: ترد كلمة عِلة ومُعَلّ، ومعلول في لسان الأئمة المتقدمين على معنيين : المعنى الأول : معنى عام ويراد به الأسباب التي تقدح في صحة الحديث المانعة من العمل به. قال ابن الصلاح: «اعلم أنه قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث المُخرِجة له من حال الصحة إلى حال الضعف المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ العلة في الأصل؛ ولذلك نجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب، والغفلة، وسوء الحفظ، ونحو ذلك من أنواع الجرح، وسمّى الترمذيُّ النسخَ علةً من علل الحديث»(24). وما قاله ابن الصلاح ظاهر؛ ففي كتاب العلل لابن أبي حاتم، وكتاب العلل للدارقطني أمثلةٌ كثيرةٌ تدلُّ على ما قال، وكذلك في تطبيقات الأئمة المتقدمين؛ فالعلة عندهم لها معنى واسع وشامل، بحيث تشمل ما قاله ابن الصلاح، والمعنى الخاص الآتي الذكر ـ وإن كان المعنى الخاص هو مراد من نبه على قلة من تكلم في هذا الفن، وأنَّه علمٌ عزيزٌ وشريف، طُوي بساطه منذ أزمان ـ . المعنى الثاني : معنى خاص، ويشمل : - الاختلاف في إسناد الحديث كرفعه ووقفه، ووصله وإرساله، وغير ذلك . - الاختلاف في متن حديث كاختصار المتن، أو الإدراج فيه، أو روايته بالمعنى وغير ذلك . - العلة الغامضة في إسنادٍ ظاهرهُ الصحة حتى لو كان الإسناد فرداً، وهذه العلةُ الغامضةُ لا يمكن أن يوضع لها ضابط محدد لأنّ لها صوراً كثيرةً ومتعددةً، وفي بعضها دقة وغموض، لا يعلمها إلاّ حذاق هذا الفن؛ فمن ذلك مثلاً: ما قاله يعقوب بن شيبة السدوسيّ: «كان سفيان بن عيينة ربما يحدث بالحديث عَنْ اثنين، فيسند الكلام عَنْ أحدهما، فإذا حدّث به عَن الآخر على الانفراد أوقفه أو أرسله»(25)، قال ابنُ رجب: «ومن هذا المعنى: أنّ ابن عيينة كان يروي عَنْ ليث، وابن أبي نجيح جميعاً عَنْ مجاهد عَنْ أبي معمر عَنْ علي حديث القيام للجنازة، قال الحميديُّ: فكنا إذا وقفناه عليه لم يُدخل في الإسناد أبا معمر إلاَّ في حديث ليث خاصة، يعني أنّ حديث ابن أبي نجيح كان يرويه مجاهد عَنْ علي منقطعاً»(26) . والاستعمال الثاني هو المراد في كلام كثير من المتأخرين، وهو الذي ذكروه في كتب المصطلح، وهو مراد من تكلم عَنْ أهمية العلل ودقتها وقلة من برز فيها، وقد أشار إليه الحاكم في معرفة علوم الحديث(27)، وعرّفه ابنُ الصلاح بقوله: «هو الحديث الذي اطلع فيه على علةٍ تقدحُ في صحته مع أنّ ظاهره السلامة منها»(28)، وعرّفه ابنُ حجر بقوله: «هو حديث ظاهره السلامة اطلع فيه بعد التفتيش على قادح»(29) . وعليه يكون الحديث المُعل متفاوتاً من حيثُ الظهور والخفاء، والوضوح والغموض، وقد يكون الكلام على الحديث المعل من حيثُ الصناعة الحديثية ولا يلزم من ذلك القدح في صحته، والله أعلم .
* تنبيه : يجتهد بعضُ طلبة الحديث ـ وفقهم الله ـ لالتماس تعريفٍ دقيقٍ للحديثِ المُعل من خلال كتاب علل ابن أبي حاتم فقط، وفي هذا عندي نظر: من جهة أنّ ابنَ أبي حاتم مات عَن الكتاب وهو مسودة لم يبيض(30)، وقد أورد أحاديث استطراداً ليبين أحكامها الفقهية (رقم0011، 3121، 7121)، أو العقدية (2/ 902 رقم 8112) .
وللخروجِ بمعنى دقيق لا بدَّ من استقراء : 1 ــ كتب العلل الخاصة، أو المتضمنة للعلل: كعلل ابن المديني، والترمذي، والدّارقُطنيّ، وابن الشهيد مع علل ابن أبي حاتم، وكتاب التمييز لمسلم بن الحجاج وغيرها. 2 ــ استعمالات الأئمة المتقدمين أمثال: شعبة بن الحجاج، ويحيى القطان، وابن المديني، وابن معين، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم بن الحجاج، ويعقوب بن شيبة، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والترمذي، والعقيلي..إلى الدّارقُطنيّ .
* خطوات دراسة الحديث المُعل : سننطلق في بيان هذه الخطوات من نصِّ إمامين من أئمة العلل هما: الإمام أبو يوسف يعقوب بن شيبة السدُوسِي المتوفى سنة (ت 262هـ)(31)، والإمام أبو الحسن علي بن عُمَر الدّارقُطنيّ (ت 583هـ) ـ رحمة الله عليهما ـ، قال عبدُ الغني بنُ سعيد الأزدي (ت 409هـ): «ولم يتكلم أحدٌ على علل الأحاديث بمثل كلام يعقوب، وعلي بن المديني، والدّارقُطنيّ»(32) . * كلامُ يعقوب بنِ شيبة : قال أبو القاسم علي بنُ الحسن ابن عساكر في تاريخه بعد أنْ ساقَ حديثَ: «تابعوا بين الحج والعمرة» من طريق أبي يوسف يعقوب بن شيبة السدوسي قال: «قال أبو يوسف: «تابعوا بين الحج» حديثٌ رواه عَاصِم بن عُبَيد الله بن عَاصِم بن عُمَر بن الخطاب وهو مضطرب الحديث، فاختلف عنه فيه، فرواه عَنْ عاصم: عبيد الله بن عُمَر، وشريك بن عبد الله، وسفيان بن عيينة؛ فأمَّا: عبيدُ الله بن عُمَر فإنه وَصَله وجوّده فرواه عنه عَنْ عبد الله بن عَامِر بن ربيعة، عَنْ أبيه، عَنْ عُمَر(33) عَن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر فيه عُمَر، رواه مرة أخرى عَنْ عُمَر عَن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نرى هذا الاضطراب إلا من عَاصِم وقد بين ابنُ عيينة ذلك في حديثه قال علي بن المديني: قال سفيان بن عيينة: كان عَاصِم يقول: عَنْ عبد الله بن عَامِر بن ربيعة عَنْ أبيه عَنْ عُمَر، ومرة يقول: عَنْ عبد الله بن عَامِر عَنْ عُمَر ولا يقول عَنْ أبيه»(34) .
* كَلامُ الدّارقُطنيّ : فقد سئل عَنْ حديثِ عَامِر بنِ ربيعة العدوي عَنْ عُمَر عَن النبي صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ» الحديث، فقالَ: «يرويه عَاصِمُ بنُ عُبَيد الله بن عَاصِم بن عُمَر بن الخطاب ـ ولم يكن بالحافظ ـ رَواهُ عَنْ عبدِ الله بنِ عَامِر بن ربيعة عَنْ أبيه عَنْ عُمَر، وكان يضطربُ فيه، فتارةً لا يذكر فيه عَامِر بنَ ربيعة فيجعله عَنْ عبد الله بن عَامِر عَنْ عُمَر، وتارةً يذكر فيه، حَدّث به عنه: عُبيد الله بن عُمَر، ومحمـد بن عَجـلان، وسـفيان الثــوري، وشـريك بن عبـد الله، واختلف عنهم؛ رواه ابنُ عُيينة عنه فبانَ الاضطراب في الإسناد من قبل عَاصِم بن عُبَيد الله لا من قِبل من رواه عنه، فأمّا روايةُ عبيد الله بن عُمَر عَنْ عَاصِم فرواهُ زُهير، وابن نمير، وعبدة بن سليمان، وأبو حفص الأبار، وأبو بدر، ومحمد ابن بشر عَنْ عبيد الله، فاتفقوا على قولٍ واحدٍ، وأسندوه عَنْ عبد الله بن عَامِر عَنْ أبيه عَنْ عُمَر، وخالفهم علي بن مسهر، وأبو أسامة، ويحيى بن سعيد الأموي فرووه عَنْ عبيد الله، ولم يذكروا في الإسناد عَامِر بن ربيعة، ورواه ابنُ عجلان عَنْ عَاصِم فَجَوّد إسناده خالدُ بنُ الحارث عنه، وخَالفه بكرُ بنُ صدقة عَنْ ابن عَجلان فلم يذكر في الإسناد عَامِر بن ربيعة، وتابعه الليثُ بنُ سعد على إسناده إلا أنه وقفه، ورواه الثوريُّ عَنْ عَاصِم واختلف عنه؛ فقال حسينُ بنُ حفص: عَنْ سفيان عَنْ عَاصِم عَنْ عبد الله بن عَامِر عَنْ أبيه عَنْ عُمَر، وخَالفه أبو أحمد الزبيريّ فرواه عَنْ الثوري فنقَصَ من إسنادهِ عَامِر بنَ ربيعة، ورواه محمدُ بنُ كثير عَنْ الثوري عَنْ عَاصِم عَنْ عبد الله بن عَامِر عَنْ أبيه عَن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيه عُمَر، ورواهُ شَريكُ ابن عبد الله عَنْ عَاصِم، واختلف عنه فأسنده يحيى بن طلحة عَنْ شَريك وجوّد إسنادَه، وخَالفه أسباطُ بنُ محمد عَنْ شريك فلم يذكر في الإسناد عامراً. وقال عثمانُ بنُ أبي شيبة عَنْ شريك عَنْ عَاصِم عَنْ عبد الله بن عَامِر عَنْ أبيه عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر عُمَر. ورواهُ سفيانُ بنُ عيينة عَنْ عَاصِم فجوّد إسنادَه وبين أنّ عاصماً كان يضطرب فيه؛ فمرةً ينقصُ من إسنادهِ رجلاً، ومرةً يزيد فيه، ومرةً يقفه على عُمَر، وقال ابنُ عُيينة: وأكثر ذلك كان يقوله عَنْ عبد الله بن عَامِر عَنْ أبيه عَنْ عُمَر عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم..»(35). بيّن يعقوبُ بنُ شيبة، والدّارقُطنيّ في كلامِهمَا السابق علةَ حديث عُمَر بن الخطاب عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة...» بياناً شافياً، واشتمل بيانهما لعلة الحديث على عدة خطوات مرتبة: 1 - تحديد مدار الحديث: بدأ يعقوبُ بذكرِ الراوي الذي تلتقي عنده الأسانيد وهو مدار الحديث وذكر اسمه كاملاً فقال: «تابعوا بين الحج» حديثٌ رواه عَاصِم بن عُبَيد الله بنِ عَاصِم بنِ عُمَر بن الخطاب»، ونحوه قول الدّارقُطنيّ. فالخطوة الأولى تحديد الراوي مدار الحديث من حيثُ اسمُهُ ونسبُهُ ومولدهُ ووفاتهُ وموطنهُ وأشهر أو أبرز أو أجل شيوخه، وأشهر تلاميذه(36)، وقد عُني المحدثون بمعرفة الرجال من جميع النواحي المتقدمة؛ فمن الناحية الاسمية عُنُوا بإزالة الإبهام وتعيين أسماء الرواة وآبائهم وكناهم وألقابهم وأنسابهم، وضبطوا ذلك بغاية الدقة، وبينوا ما هو على ظاهره من الأنساب وما ليس على ظاهره، وميزوا كلَّ راوٍ عما سواه تمييزاً دقيقاً (37)، وكذلك عُنُوا بتواريخ الرواة مولداً ووفاةً وسماعاً(38)، قال السخاويُّ: «تواريخ الرواة والوفيات... وهو فنٌّ عظيم الوقع من الدين، قديم النفع به للمسلمين، لا يستغنى عنه..»(39). وللمتقدمين أقوال كثيرة دقيقة دالة على مدى اهتمامهم بهذا الجانب من علوم الحديث؛ فمن تلك الأقوال: قولُ سفيان الثوري: «لما استعمل الرواةُ الكذب، استعملنا لهم التاريخ»(40)، وقولُ حفص بن غياث: «إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين»(41)، وقولُ حسّان بن زيد: «لم نستعن على الكذابين بمثل التاريخ، نقول للشيخ: سنة كم ولدت؟ فإذا أقر بمولده عرفنا صدقه من كذبه»(42). وهذه الخطوة من الأهمية بمكان حيث إنّ أسماء الرجال وأنسابهم وكناهم قد تتشابه مما يوقع الباحث في أوهام كبيرة. قال المعلميُّ ـ رحمة الله عليه ـ «الأسماء كثيراً ما تشتبه ويقع الغلط والمغالطة فيها... وقد يقول المحدث كلمة في راوٍ فيظنها السامع في آخر، ويحكيها كذلك وقد يحكيها السامع فيمن قيلت فيه ويخطئ بعض من بعده فيحملها على آخر؛ ففي الرواة المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، والمغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حزام الحزامي، والمغيرة بن عبد الرحمن بن عوف الأسدي، حكى عباس الدوري عَنْ يحيى بن معين توثيق الأوّل، وتضعيف الثالث، فحكى ابنُ أبي حاتم عَن الدوريّ عَنْ ابن معين توثيق الثاني ووَهّمه المزيُّ، ووثق أبو داود الثالث وضعف الأوَّل، فذكرت له حكاية الدوريّ عَن ابن معين فقال: غَلِط عباس، وفي الرواة محمد بن ثابت البناني ومحمد بن ثابت العبدي وغيرهما... وفي الرواة عُمَر بن نافع مولى ابن عُمَر، وعمر بن نافع الثقفي..»(43).
وقد كَثُرتْ أوهام المحققين المعاصرين في تسمية الرواة وأنسابهم، وتجرؤوا على كتب السلف، بل قد وَهّموا الأئمة في ذلك!! والله المستعان. ولا بدَّ هنا من التنبه إلى: 1- عدم التوسع في هذه الخطوة بحيث تخرج عَنْ مقصودها الأصلي وهو التعريف بالراوي المدار لا ترجمته ترجمةً مستوفية؛ فمثلاً سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله بن عُمَر، ونافع مولى ابن عُمَر، والزهري، ومالك بن أنس وغيرهم من كبار الأئمة المشهورين بالثقة والعدالة لا حاجة للإطالة في تراجمهم لشهرتهم بل يكتفى بتعريف مختصر. 2- العناية بالرجوع إلى المصادر الأصلية المتقدمة التي عُنيت بهذا الجانب ـ كتاريخي البخاري الكبير، والأوسط، والجرح والتعديل وغيرها ـ قدر الإمكان؛ لأنّ في رجوع الباحث للمصادر الأصلية المتقدمة تعميقاً لعلاقة طالب العلم بها، وفهماً لكلامهم في هذا الشأن، ودُرْبة على طرائقهم في التأليف وغير ذلك من الفوائد. 3- بيان حال الراوي الذي تلتقي عنده الأسانيد: بعد تحديد المدار بيّن يعقوبُ بنُ شيبة حالَ المدار من حيثُ القوة والضعف فقال: «وهو مضطرب الحديث»، وقال الدّارقُطنيّ: «ولم يكن بالحافظ». 2- فالخطوة الثانية دراسة حال الراوي من حيث القوة والضعف، ويراعى في دراسة حال المدار أمور: 1- هل هو ثقة أو ضعيف أم فيه تفصيل؟ 2- هل حديثه عَنْ جميع شيوخه متساوٍ أو فيه تفصيل؛ فقوي عَنْ بعضهم، وضعيف عَن البعض الآخر. 3- هل حديث تلاميذه عنه متساوٍ أو فيه تفصيل؛ فبعضهم أقوى من بعض. 4- هل حديثه مستقيم طوال عمره أم طرأ عليه تغير واختلاط؟ وهل هذا التغير ضار أم غير ضار؟ وهل حدّث بعد التغير أم لا؟ وهل ظهرت له مناكير بعد التغير أم لا؟ ولا بدَّ من تحديد مبدأ التغير والاختلاط بدقة. 5- هل حديثه في جميع الأماكن متساوٍ، أم فيه تفصيل؟ وسببُ ذلكَ. 6- هل وُصف بالتدليس؟ وهل ثبت عنه ذلك؟ وما نوعُ تدليسه؟ وهل هو مكثر منه أم مقل؟ وهل تدليسه عام في شيوخه أم خاص ببعض الشيوخ؟ وهل يدلس عَن الثقات فقط أم عَن الثقات والضعفاء؟ وكيفية تعامل الأئمة مع حديثه المدلس(44). 7- هل هو يرسل عَنْ شيوخه؟ وهل ثبت عنه ذلك؟ فإن ثبت أنه يرسل ينظر في ثبوت سماعه من شيوخه؟ ويعتنى بكلام الإمام البخاري في تاريخه الكبير والأوسط وتصرفاته في الصحيح.
وللشيخ عبد الرحمن المعلمي ـ رحمة الله عليه ـ كلامٌ نفيسٌ في كيفية البحث عَنْ أحوال الرواة في كتب الجرح والتعديل في كتابه القيّم «التنكيل» ولعلي أذكرها باختصار خشية الإطالة، وإنْ كانت جديرة بأن تذكر كاملة بحروفها، قال(45): «من أحب أن ينظر في كتب الجرح والتعديل للبحث عَنْ حال رجل وقع في سندٍ فعليه أن يراعي أموراً : الأول : إذا وجد ترجمة بمثل ذاك الاسم فليتثبت حتى يتحقق أن تلك الترجمة هي لذاك الرجل. الثاني : ليستوثق من صحة النسخة وليراجع غيرها إن تيسر له ليتحقق أنّ ما فيها ثابت عَنْ مؤلف الكتاب. الثالث : إذا وجد في الترجمة كلمة جرح أو تعديل منسوبة إلى بعض الأئمة فلينظر أثابتةٌ هي عَنْ ذاك الإمام أم لا؟ الرابع : ليستثبت أن تلك الكلمة قيلت في صاحب الترجمة فإنّ الأسماء تتشابه. الخامس : إذا رأى في الترجمة «وثقه فلان» أو «ضعفه فلان» أو «كذبه فلان» فليبحث عَنْ عبارة فلان؛ فقد لا يكون قال «هو ثقة» أو «هو ضعيف» أو «هو كذاب». السادس : أصحاب الكتب كثيراً ما يتصرفون في عبارات الأئمة بقصد الاختصار أو غيره، وربما يخل ذلك بالمعنى.. السابع : قال ابن حجر في لسان الميزان (1/71): وينبغي أن يتأمل أيضاً أقوال المزكين ومخارجها... فمن ذلك أن الدوري قال عَن ابن معين إنه سئل عَن ابن إسحاق وموسى بن عبيدة الربذي أيهما أحب إليك؟ فقال: ابن إسحاق ثقة. وسئل عَنْ محمد بن إسحاق بمفرده فقال: صدوق وليس بحجة. ومثله أن أبا حاتم قيل له: أيهما أحـب إليك يونس أو عقيل؟ فقال: عقيـل لا بأس به. وهو يريد تفضيله على يونس. وسئل عَنْ عقيل وزمعة ابن صالح فقال: عقيل ثقة متقن. وهذا حكم على اختلاف السؤال. وعلى هذا يحمل أكثر ما ورد من اختلاف كلام أئمة أهل الجرح والتعديل ممن وثق رجلاً في وقت وجرحه في وقت آخر. الثامن : ينبغي أن يبحث عَنْ معرفة الجارح أو المعدل بمن جرحه أو عدله. التاسع : ليبحث عَنْ رأي كل إمام من أئمة الجرح والتعديل واصطلاحه مستعيناً على ذلك بتتبع كلامه في الرواة واختلاف الرواية عنه في بعضهم مع مقارنة كلامه بكلام غيره. العاشر : إذا جاء في الراوي جرح وتعديل فينبغي البحث عَنْ ذات(46) بين الراوي وجارحه أو معدله من نفرة أو محبة...». والحق أنّ كلام المعلمي هذا ينبغي أن يقرر على طلاب السنة وعلومها في الدراسات العليا مع شرحٍ وتطبيق، وأرجو أن يتحقق هذا، والله الموفق.
ومما تقدم يتبين: أ - أنّ دراسة حال الراوي ليست بالأمر الهيّن ـ كما يظن البعض ـ بل ربما راجع الباحث عشرات الكتب، ودرس عشرات الأسانيد للبحث عَنْ فائدة معينة، أو التحقق منها، وربما بدأ بدراسة حال الراوي من مولده ونشأته إلى وفاته لاستخلاص حكم دقيق لحاله، وتأمل حال السلف في هذا الباب: 1 ــ قال محمدُ بنُ إبراهيم بن أبي شيخ الملطي: «جاء يحيى ابن معين إلى عفّان ليسمع منه كتب حماد بن سلمة فقال: أما سمعتها من أحد؟ قال: نعم حدثني سبعة عشر نفساً عَنْ حماد، قال: والله لا حدثتك، فقال: إنما هو درهم، وأنحدرُ إلى البصرة فأسمع من التبوذكيّ قال: شأنك، فانحدر إلى البصرة، وجاء إلى التبوذكي، فقال له: أما سمعتها من أحد؟ قال: سمعتها على الوجه من سبعة عشر وأنت الثامن عشر، قال: وما تصنع بهذا؟ قال: إنّ حماد بن سلمة كان يخطئ فأردت أن أميّزَ خطأه من خطأ غيره؛ فإذا رأيتُ أصحابه اجتمعوا على شيء علمتُ أنّ الخطأ من حماد نفسه...»(47). 2 ــ قال ابن حبان: «ولقد دخلتُ حمص وأكثر همي شأن بقية، فتتبعت حديثه وكتبت النسخ على الوجه، وتتبعت ما لم أجد بعلو من رواية القدماء عنه، فرأيته ثقة مأموناً؛ ولكنه كان مدلساً..»(48). ب - أنَّ من يعتمد على الكتب المتأخرة فقط ـ كما هو الجاري في كثير من الأحيان ـ دون الرجوع إلى المصادر الأصلية المتقدمة من تواريخ وسؤالات وعلل وغيرها قد قصّر وربما فاته الشيء الكثير عَنْ هذا الراوي المعين، والله المستعان. 3 - ذكر الرواة عَن المدار وبيان اختلافهم عنه : بعد تحديد المدار، وبيان درجته في الرواية ذكر يعقوب بن شيبة الرواة عَن المدار وبين اختلافهم فقال: «فاختلف عنه فيه، فرواه عَنْ عاصم: عبيد الله بن عُمَر، وشريك بن عبد الله، وسفيان بن عيينة؛ فأمَّا عبيدُ الله بن عُمَر فإنه وَصَله وجوّده، فرواه عنه عَنْ عبد الله بن عَامِر بن ربيعة، عَن أبيه، عَن عُمَر(49) عَن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر فيه عُمَر، رواه مرة أخرى عَنْ عُمَر عَن النبي صلى الله عليه وسلم». وقال الدّارقُطنيّ: «حدّث به عنه: عبيد الله بن عُمَر ومحمد بن عجــلان وســفيان الثــوري وشـريك بن عبد الله، واختلف عنهم...». فالخطوة الثالثة ذكر الرواة عَن المدار وبيان اختلافهم واتفاقهم عَن المدار، قال ابن حجر: «فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف»(50) ويراعى هنا أمور : 1 - التأكد من سلامة الإسناد إلى الراوي عَن المدار، وأنه ثابت عنه؛ فإن لم يكن ثابتاً فلا يعتمد عليه ولا يذكر إلاّ من باب التنبيه عليه. 2 - التأكد من عدم وجود اختلاف على الراوي عَن المدار؛ فإن كان هناك اختلاف يُدْرس للتحقق من الرواية الراجحة. 3 - دراسـة حال الراوي وبيان درجته مـن حيثُ الرواية، ولا يتوسع في ترجمته بل يذكر ما يفي بالغرض. 4 - ترتيب الروايات عَن المدار حسب الاتفاق والاختلاف؛ فيُقال مثلاً: اختلف عَن الزهري على خمسة أوجه: الأول : رواه فلان، وفلان ـ في الراجح عنه ـ عَن الزهري ..... يذكر الوجه. الثاني : رواه فلان، وفلان ـ في الراجح عنه ـ عَن الزهري ..... يذكر الوجه. وهكذا . 4ـ الموازنة بين الروايات وبيان الراجح وأسباب الترجيح : بعد الخطوات السابقة بين يعقوب بن شيبة، والدّارقُطنيّ أنّ سبب الاضطراب في الحـديث من عَاصِــم بن عُبَيد الله نفســه لا مــن الرواة عنــه، وذكَــرَا ما يدلُّ على ذلك فقالَ يعقـوبُ: «ولا نرى هذا الاضطراب إلا من عَاصِم، وقد بين ابنُ عيينة ذلك في حديثه قال علي بن المديني: قال سفيان بن عيينة: كان عَاصِم يقول: عَنْ عبد الله بن عَامِر بن ربيعة عَنْ أبيه عَنْ عُمَر ومرة يقول: عَنْ عبد الله بن عَامِر عَنْ عُمَر ولا يقول عَن أبيه»، وقال الدّارقُطنيّ: «ورواه سفيانُ بنُ عيينة عَن عَاصِم فجوَّد إسناده وبين أن عاصماً كان يضطرب فيه؛ فمرة ينقص من إسناده رجلاً ومرة يزيد ومرة يقفه على عُمَر...». إذاً الخطوة الرابعة الموازنة بين الروايات وبيان الراجح وأسباب الترجيح؛ وهذه من أهم خطوات الدراسة وبها يتميز الناقد البصير من غيره، ومن خلالها يتبين دقة نظر الباحث، وعمق معرفته بالعلل، ومنها يعرف فضل علم الأئمة المتقدمين وبراعتهم ودقتهم؛ فهناك قرائن وقواعد طبقها الأئمة للموازنة بين الروايات المعلة، قال ابن حجر: «والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من القبول والرد، بل يرجحون بالقرائن»، وقال ابنُ عبد الهادي عَنْ قبول زيادة الثقة: «فيه خلاف مشهور؛ فمن الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقاً، ومنهم من لا يقبلها؛ والصحيح التفصيل وهو أنها تُقبل في موضع؛ دون موضع فتقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظاً ثبتاً والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الثقة كما قبل الناس زيادة مالك بن أنس قوله: «من المسلمين» في صدقة الفطر، واحتج بها أكثر العلماء، وتقبل في موضع آخر لقرائن تخصها، ومن حكم في ذلك حكماً عاماً فقد غلط؛ بل كل زيادة لها حكم يخصها؛ ففي موضع يجزم بصحتها.. وفي موضع يغلب على الظن صحتها.. وفي موضع يجزم بخطأ الزيادة.. وفي موضع يغلب على الظن خطؤها.. وفي موضع يتوقف في الزيادة»(51). وقال العلائيُّ ـ رحمة الله عليه ـ: «وأمَّا أئمةُ الحديثِ فالمتقدمون منهم كيحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ومن بعدهما كعلي بن المديني وأحمد بن حنبل، ويحيى ابن معين، وهذه الطبقة، وكذلك من بعدهم كالبخاريّ، وأبي حاتم، وأبي زرعة الرازيين، ومسلم، والنسائي، والترمذي، وأمثالهم، ثم الدارقطني والخليلي كلُّ هؤلاء يقتضي تصرفهم في الزيادة قبولاً وردّاً الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند الواحد منهم في كل حديث، ولا يحكمون في المسألة بحُكْمٍ كُليّ يعم جميعَ الأحاديث، وهذا هو الحق الصواب كما سنبينه إن شاء اللهُ تعالى..»(52).
والأئمةُ يصرحون ـ أحياناً ـ بهذه القرائن والطرق، وأحياناً تفهم وتستنبط من صنيعهم؛ فمن تلك الطرق والقرائن(53): 1 - الترجيح بالحفظ والإتقان والضبط. 2 - الترجيح بالعدد والكثرة. 3 - سلوك الراوي للجادة والطريق المشهور. 4 - الترجيح بالنظر إلى أصحاب الراوي المقدمين فيه. 5 - الترجيح باعتبار البلدان واتفاقها. 6 - الترجيح بالزيادة. 7 - عدمُ وجودِ الحديث في كتب الراوي الذي رُوي الحديث عنه. 8 - شهرة الحديث وانتشاره من طريق يدل على غلط من رواه من طريق آخر. 9 - وجود قصة في الخبر تدل على صحة الطريق. 10 - التفرد عَنْ إمام مشهور وله تلاميذ كثيرون. 11 - تحديثُ الراوي في مكان ليس معه كتبه. 12- التحديث بنزول مع إمكانية العلو في السماع. 13- عدم العلم برواية الراوي عمن روى عنه، أو عدم سماعه منه. 14- إمكانية الجمع بين الروايات عند التساوي. 15- رواية الراوي عَنْ أهل بيته. 16- اختلاف المجالس وأوقات السماع. 17- ورود الحديث بسلسلة إسناد لم يصح منها شيء. 18- التحديث من كتاب. 19- ضعف الراوي أو وهمه أو اضطرابه. 20- مشابهة الحديث لحديث راوٍ ضعيف. 21- أن يروي الرجل الحديثَ على وجهين: تارةً كذا، وتارةً كذا، ثم يجمعهما معاً؛ فهذا قرينة على صحتهما معاً. 22 - قبول الراوي للتلقين. 23- ورود الحديث عَنْ راوٍ وقد ورد عنه ما يدل على خلافه موقوفاً. 24- مخالفة الراوي لمَا روى سواء وُجِد اختلاف أو لم يوجد ـ على تفصيل في ذلك ـ . 25- اضطراب إحدى الروايات. 26- دلالة الرواية على الكذب. 27 ـ شهرة الراوي بأمر معين؛ كاختصار المتون، أو الإدراج فيها، أو الرواية بالمعنى، أو التصحيف في الألفاظ أو الأسماء، أو قصر الأسانيد، أو جمع الرواة حال الرواية. والحق أنَّ قرائن الترجيح كثيرة لا تنحصر؛ فكلُّ حديثٍ له نقدٌ خاص. قال ابنُ حجر: «ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص، وإنّما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات، ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده»(54). وقال ابنُ رجب: «قاعدةٌ مهمةٌ: حذّاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال، وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به أنَّ هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك، وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره، وإنما يرجع فيه إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عَنْ سائر أهل العلم»(55).
وفي الختام أنبه على أمور : 1 ــ ضرورة العنايةِ بعلم علل الحديث بالنسبة للمشتغلين بالحديث وعلومه، ومن لا يحسنه ولا يفهمه لا يحل له الحكم على الأحاديث حتى يتعلمه ويفهمه، وينبغي تشجيع الطلبة على دراسته، وتقرير مقرر خاص لطلبة الدراسات العليا في هذا الفن والبحث فيه. 2 ــ ضرورة فهم مصطلحات أئمة الحديث المتقدمين حسب استعمالهم لها عَن طريق الجمع والاستقراء والدراسة والموازنة. 3 ــ اتباع الأئمةِ المتقدمين في تعليلهم للأخبار، وعدم التسرع في الرد عليهم، وهذا من باب الاتباع المحمود لا التقليد المذموم. 4 ــ جمع طرقِ الحديث، والنظر فيها مجتمعةً، ومعرفة مراتب رواتها. 5 ــ اتباع منهجٍ منضبطٍ عند دراسةِ الحديثِ المُعل يوافق طريقة الأئمة المتقدمين، فيبدأ أوّلاً بتحديد مدار الحديث، ثم بيان حال المدار من حيثُ القوة والضعف، ثم يذكر الرواة عَنْ المدار ويبين اختلافهم واتفاقهم عنه، ثم يوازن بين الروايات ويبين الراجح وأسباب الترجيح. 6 ــ خطأ من يقول إنَّ زيادة الثقة مقبولة مطلقاً، فإنّ طريقة الأئمة المتقدمين الحكم حسب القرائن، وتقدم قريباً النقل في ذلك عَن ابن عبد الهادي، والعلائيّ، وابن حجر، وقال ابن رجب: «ثم إنّ الخطيبَ تناقضَ فذكر في كتاب «الكفاية» للناس مذاهب في اختلاف الـرواة في إرســال الحــديث ووصله كلها لا تعرف عَنْ أحد من متقدمي الحفاظ، إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين، ثم إنه اختار أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقاً كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء، وهذا يخالف تصرفه في كتاب «تمييز المزيد»(56). 7 ــ خطأ وضع حكمٍ أو قاعدةٍ كليةٍ في الترجيح بين الأحاديث المعلة، بل الأمر كما قال ابنُ حَجَر: «كل حديث يقوم به ترجيح خاص... ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده»، وقال البقاعي ـ عند كلامه على تعارض الوصل والإرسال ـ: «إنّ ابنَ الصلاح خَلَطَ هنا طريقةَ المحدثين بطريقةِ الأصوليين، فإن للحذاق من المحدثين في هـذه المسألة نظراً لم يحكه، وهـو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، وذلك أنهم لا يحكمون فيها بحكمٍ مطرد، وإنما يديرون ذلك على القرائن»(57). 8 ــ أنَّ الأئمة المتقدمين أمثال شعبة بن الحجاج، ويحيى القطان، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن شيبة، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والدّارقُطنيّ، وغيرهم في باب التعليل ـ كمسألة زيادة الثقة، والتعليل بالتفرد بضوابطـ متفقون بالجملة وإن وقع منهم بعض الاختلاف الجزئي لأسباب معينة؛ ومما يدل على ذلك: قصة السائل مع أبي حاتم التي ذكرتها في أوَّل البحث؛ وفيها يقول أبو حاتم: «جاءني رجلٌ من جِلَّةِ أصحابِ الرأي مِنْ أهلِ الفهم منهم، وَمَعَه دفترٌ فعرضه عليَّ، فقلتُ في بعضها: هذا حديثٌ خطأ قد دَخَل لصاحبه حديثٌ في حديث، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ باطل، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ منكر، وقلتُ في بعضهِ: هذا حديثٌ كذب، وسائرُ ذلك أحاديثُ صحاح، فقال: من أين علمتَ أنّ هذا خطأ، وأنَّ هذا باطل، وأنّ هذا كذب؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطتُ وأني كذبتُ في حديث كذا؟ فقلتُ: لا، ما أدري هذا الجزء من رواية مَنْ هو، غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأنّ هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب، فقال: تدعي الغيب؟ قال قلت: ما هذا ادعاء الغيب، قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلتُ: سلْ عما قلتُ من يحسن مثل ما أحسن؛ فإن اتفقنا علمتَ أنَّا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم، قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة...». وقال محمدُ بنُ صالح الكِيلِينِي: «سمعتُ أبا زرعة وقالَ لهُ رجلٌ: ما الحُجةُ في تعليلكم الحديث؟ قال: الحجة أنْ تسألني عن حديثٍ لهُ عِلةٌ فأذكرُ علتَه ثم تقصدُ محمد بن مسلم بن وارة، وتسأله عنه، ولا تخبره بأنّك قد سألتني عنه فيذكر علته، ثم تقصدُ أبا حاتم فيعلله، ثم تميزُ كلامَ كلّ منّا على ذلكَ الحديث، فإنْ وجدتَ بيننا خلافاً في علته، فاعلم أنّ كلاً منا تكلم على مراده، وإنْ وجدتَ الكلمة متفقة، فاعلمْ حقيقةَ هذا العلم، قال: فَفَعَلَ الرجلُ، فاتفقت كلمتُهم عليه، فقال: أشهدُ أنَّ هذا العلمَ إلهام»(58). 9 ــ أنّ تعاليل الأئمة للأخبار مبنيةٌ ـ في الغالب ـ على الاختصار، والإجمال، والإشارة، فيقولون مثلاً: «الصواب رواية فلان»، أو «وَهِمَ فلان» أو «حديث فلان يشبه حديث فلان» أو «دَخَلَ حديثٌ في حديث» ولا يذكرون الأدلة والأسباب التي دعتهم إلى ذلك القول ـ مع وجودها عندهم واستحضارهم إياها ـ وسببُ ذلك أنّ كلامهم في الغالب موجه إلى أناسٍ يفهمون الصناعة الحديثية والعلل والإشارة فيدركون المراد بمجرد إشارة الإمام للعلة وذكرها، وقد خشي الأئمة من أنْ يساء الظـن بهـم إذا تكلمـوا بهـذا الفـن عنـد مـن لا يحسنه ولا يفهمه. قالَ الإمامُ مسلم بنُ الحجاج: «أمّا بعد: فإنك ـ يرحمك الله ـ ذكرتَ أنّ قِبَلكَ قوماً ينكرون قولَ القائلِ مِنْ أهلِ العلم إذا قالَ: هذا حديثٌ خطأ، وهذا حديثٌ صحيحٌ، وفلانٌ يخطئ في روايته حديث كذا، والصوابٌ ما روى فلانٌ بخلافهِ، وذكرتَ أنهم استعظموا ذلكَ مِن قولِ من قاله ونسبوه إلى اغتيابِ الصالحين مِن السلف الماضين، وحتى قالوا: إن مِن ادعى تمييز خطأ روايتهم من صوابها متخرص بما لا علم له بـه، ومدعٍ علمَ غيب لا يوصل إليه، واعلم ـ وفقنا الله وإياكَ ـ أنْ لولا كثرة جهلة العوام مستنكري الحق ورايه بالجهالة(*) لما بان فضل عالم على جاهل، ولا تبين علم من جهل، ولكن الجاهل ينكر العلم لتركيب الجهل فيه، وضد العلم هو الجهل؛ فكلُّ ضد نافٍ لضده، دافع له لا محالة، فلا يهولنك استنكار الجهالِ وكثرة الرعاع لما خص به قوم وحرموه؛ فإن اعتداد العلم دائر إلى معدنه، والجهل واقف على أهله»(59). وقال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة: «لأنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث؛ لأنَّ علم العامـة يقصر عَنْ مثل | |
|